مالك بن الريب.. قائد العصابة الذي أصبح مجاهداً في جيش الفتح
شاعر يرثي نفسه[i][u]
مالك بن الريب بن حوط بن قرط المازني التميمي، شاعر عربي عاش في بداية الدولة الأموية وتوفي سنة 60 هجرية 680 ميلادية.
حين تدخل إلى حياة هذا الشاعر، والذي لم يحفظ التاريخ من شعره غير تلك القصيدة التي سنتناول حكايتها اليوم.. لن تجد في هذه الحياة ما يمهد لميلاد شاعر بحجم تلك القصيدة المقصودة.
فمالك بن الريب رجل عادي.. لم يأت من سلالة الأعيان أو الأغنياء.. بل هو من عامة الناس.. ويعاني الفقر والبطالة.. ولكنه في الوقت نفسه، يتميز بحسن الوجه، وقوة الجسد.. وشجاعة المقاتل الذي لا يخاف الموت.
وفي زمنه، كانت الدولة العربية الإسلامية تتكون من خلال الفتوحات التي بدأت في الخلافة الراشدة، واستمرت في عهد بني أمية.. وكان يمكن لمالك بن الريب لو أتيحت له فرصة التكوين العقائدي أن يشارك كمقاتل شرس في تلك الفتوحات.
ولكنه أمام الواقع المتمثل بزوجة صابرة محبة، وابنة محتاجة إلى رعاية أبيها وعنايته، وأم طاعنة في السن ليس لها سواه.. أمام هذا الواقع لم يجد مالك بن الريب من وسيلة لتأمين لقمة العيش إلا أن يصبح قاطع طريق، يمارس من خلال قطع الطرق السرقة بالإكراه.
شكل مالك بن الريب عصابته الخاصة والتي لم يزد عدد أفرادها عن أصابع اليد الواحدة.. ولكن كلاً منهم كانت له شهرته التي وصلت إلى أولي الأمر.. فحاولوا القضاء على تلك العصابة التي روعت الناس فلم يستطيعوا .
كان شظاظ الضبي واحداً من أهم أفراد تلك العصابة وكان يضرب به المثل فيقال: ألص من شظاظ.. وكان أبو حردبة بن أثالة بن مازن أيضاً ركناً من أركان هذه العصابة.. كذلك كان غويث بن كعب بن مالك بن حنظلة..
ولكن مالك بن الريب كان يختلف عن هؤلاء بوسامته وحسن وجهه ومظهره الباهر كفارس من فرسان العرب وشجعانها.
ولقد عمل مروان بن الحكم عندما كان عاملاً على المدينة على القبض على تلك العصابة، ووجه إليهم عدة حملات كادت واحدة منها أن تنجح، ولكن مالك بن الريب تمكن من قتل حارسه والهرب، وتحرير باقي أفراد العصابة.
عندما قرأت هذه التفاصيل شعرت وكأنني أشاهد فيلماً عن المافيا.. وكيف تكون متماسكة لا تتخلى عن عضو من أعضائها مهما كانت العواقب.. كل ما هو مختلف هو الشخصيات المسلحة، فالسيوف والخناجر بدل المسدسات والرشاشات.. والخيول بدل السيارات.
ويتغير ميدان عمل عصابة مالك بن الريب من الجزيرة العربية إلى خارج حدود العراق، وفي الطريق المؤدية إلى خراسان، في العام 56 هجرية، وبينما كان سعيد بن عثمان بن عفان في طريقه من المدينة إلى البصرة إلى خراسان التي ولاه عليها معاوية بن أبي سفيان أول الخلفاء الأمويين، تم ذلك اللقاء التاريخي بين مالك بن الريب وسعيد بن عثمان.. ودار ذلك الحوار المسجل في كثير من المراجع التاريخية:
◆ ويحك يا مالك.. ما الذي يدعوك إلى هذا العمل الذي لا يرضي الله ولا يتفق مع روح الإسلام؟ إنك تسيء إلى نفسك وتفسدها بقطع الطريق كما بلغني عنك وعن عصابتك.
ـ وماذا تريدني أن أعمل؟
◆ رجل مثلك حسن الوجه، جيد الهندام وفارس لا يشق له غبار.. كيف تطيق أن تتحول إلى لص وقاطع طريق؟
ـ الذي دعاني إلى ذلك هو العجز عن المعالي.. ومساواة ذوي المروءات ومكافأة الإخوان.. أنا يا ابن عثمان لا أملك شيئاً ولدي عائلة كبيرة.. ولقد سمعت أحد الصحابة يقول: أعجب من رجل لا يملك قوت يومه وكيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه؟
◆ اسمع يا مالك.. لم تفت الفرصة بعد.. بإمكانك أن تصلح نفسك وتغير طريقك.. وتضع نفسك مع الفرسان المجاهدين في سبيل الله.
ـ كيف أيها القائد العظيم وأنا قاطع طريق؟
◆ تب إلى الله وجاهد في سبيله.
ـ وهل يقبل الله توبتي.
◆ إن الله غفور رحيم.
ـ وأنا تبت إلى الله ومستعد للجهاد في سبيله من هذه اللحظة.
◆ وأنا أصحبك معي إلى خراسان.. وسنقوم بفتح بعض البلاد، وستكون أنت مع الفاتحين.
- الحمد لله الذي هداني قبل أن ألقى نار جهنم.
رافق مالك بن الريب سعيد بن عثمان بن عفان إلى خراسان وأبلى مع جيش المسلمين بلاءً حسناً، وشهد فتح سمرقند وتحول من ذلك الخارج عن الدين والمجتمع إلى مجاهد فارس يتحلى بقيم الإسلام وفضائله إلى درجة تنسّك فيها وقام الليل مصلياً مسنغفراً.
وأدرك سعيد ببن عثمان أنه لم يكسب مجاهداً في صفوف المسلمين فحسب، بل حرم جبهة الشيطان من أهم مقاتليها.
وعندما هدأت الأمور وتمت الفتوح، رجع سعيد بن عثمان بن عفان إلى المدينة، ورجع معه مالك بن الريب.
وفي طريق العودة، وفي وادٍ يقال له وادي الغضى.. تعددت الروايات.. فمن رواية تقول: إن أفعى لدغته وبدأ سمها يسري في دمه ويموت تدريجياً.. إلى رواية أخرى تقول إنه مرض مرضاً شديداً أدرك معه أنه ميت لا محالة..
وسواء لدغته أفعى أم مرض، فإن المؤرخين يتفقون على أن القصيدة التي نظمها وهو يموت في رثاء نفسه كات من فرائد الشعر، لا ترقى إليها أية قصيدة رثاء أخرى.
ترك سعيد بن عثمان مع مالك بن الريب رجلين ليقوما بخدمته وهو في محنته المرضية.. أشار إليهما مالك في قصيدته الرائعة.
حاول الرجلان أن يرفعا من روحه المعنوية، ولكنه كان لا يخشى الموت، ولولا تذكره لمن يحبهم ويحبونه لما بكى نفسه ولا منح تلك القصيدة ثوب الحزن والأسى الذي لبسته أمام كل من قرأها أو اطلع عليها.
◆ ما الذي يحزنك يا مالك؟ قالها ذلك الصاحب الذي تولى تدوين أبيات قصيدة مالك.
ـ يحزنني أيها الصاحب تذكر ابنتي التي تعلقت بثوبي باكية طالبة ألا أخرج.
◆ ولماذا كانت تريدك ألا تخرج.
ـ خشيت أن يطول سفري أو يحول الموت دون لقائنا.. وها هو سفري قد طال، وهذا هو الموت يقبل ليحول دون لقائنا.
◆ لعلك تلقاها يا مالك.. إنك حي ترزق.
ـ أنا أحس بدبيب المنية.. ولا مفر.
◆ لا تيأس من رحمة الله.
ـ والموت قد يكون رحمة.
◆ ولكن ماذا قلت لابنتك عندما تركتها؟
أغمض مالك بن الريب عينيه مستذكراً تلك الأبيات التي نظمها بعد خروجه من بيته هارباً من بكاء ابنته وتمتم:
ولقد قلت لابنتي وهي تبكي
بدخيل الهموم قلباً كئيباً
استكنّي فقد حززت بالدمع قلبي
طالما حز دمعكنَّ قلوبا
فعسى الله أن يدافع عني
ريب ما تحذرين حتى أؤوبا
أنا في قبضة الإله إذا كنت
بعيداً أن كنت منك قريبا
فدعيني من انتحابك إني
لا أبالي إذا اعتزمتِ النحيبا
◆ تحبها يا مالك؟
ـ وهل سوى هذا الحب ما يجعلني أشعر بالأسى الآن؟
كان واضحاً لصاحبيه أنه يموت بطء، ولكن الذي أثارهما هو هذا الحرص على نظم الشعر وهو يودع الحياة.. من الصعب على أي إنسان أن يقوم برثاء نفسه وهو يموت.. قد يفعل ذلك وهو في كامل صحته ووعيه توقعاً ليوم الوفاة، ولكن أن يصر على التفكير بالشعر وبذل الجهد في النظم وهو على فراش الموت، فهذا ما كان أكثر من غريب.
كان مالك بن الريب شاعراً، ولكن لم يحفظ لنا مؤرخو الشعر ودارسوه من شعره الكثير، بل إنه لا يذكر مالك بن الريب إلا ويذكر معه قصيدته التي يرثي بها نفسه.. وكأنه لم ينظم غيرها.
وأختار من هذه القصيدة بعض الأبيات التي أعتقد أنها تحمل الكثير من الإبداع:
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلة
بجنب الغضى أُزجي القلاصَ النواحيا
فليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرضَهُ
وليتَ الغضى ما شى الركابَ لياليا
لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى
مزارٌ ولكنّ الغضى ليس دانيا
ألم ترَني بعتُ الضلالة بالهدى
وأصبحتُ في جيش ابن عفانَ غازيا
وأصبحت في أرض الأعاديِّ بعدما
أراني عن أرض الأعاديِّ قاصيا
دعاني الهوى من أهل أودَ وصحبتي
بذي الطبَسَيْنِ فالتفتُ ورائيا
أجبتُ الهوى لمّا دعاني بزفرةٍ
تَقنّعتُ منها أألامَ ردائيا
أقول وقد حالت ققرى الكرد بيننا
جزى الله عمراً خيرَ ما كان جازيا
إن اللهُ يرجعْني مِن العزوِ لا أُرى
وإن قل مالي طالباً ما ورائيا
تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي
سِفارُك هذا تاركي لا أباليا
لعمري لئن غالتْ خراسانُ لا أعُدْ
إليها وإن منيتموني الأمانيا
تذكرتُ من يبكي علي فلَم أجِدْ
سوى السيفِ والرمحِ الرُّديني باكيا
وأشقر خنذيذٍ يجرُّ عنانه
إلى الماء لم يتركْ له الدهرُ ساقيا
ولكن بأطراف (السُّمَيْنةِ) نسوةٌ
عزيزٌ عليهنّ العشيةَ ما بيا
صريعٌ على أيدي الرجال بقفزةٍ
يسَوُّون لَحدي حيثُ حُمَّ قضائيا
ولمّا تراءت عندَ مروٍ منيتي
وخلّ بها جسمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنه
يقرّ بعيني أن (سُهيلٌ) بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا
برابيةٍ إني مقيمٌ لياليا
أقيمَا عَليّ اليومَ أو بعض ليلةٍ
ولا تُعجلاني قد تبيّنَ شانيا
وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيئا
لي السدرَ والأكفانَ عندَ فنائيا
وخُطّا بأطراف الأسنّة مضجعي
وردّا على عينيَّ فضلَ رِدائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما
من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجُرّاني بثوبي إليكما
فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا
وقد كنتُ عطّافاً إذا الخيل أدبَرَتْ
سريعاً إلى الهيجا إلى مَن دعانيا
وقد كنت صباراً على القرنِ في الوغى
وعن شتميَ ابن العم والجار وانيا
فطوراً تراني في ظلالٍ ونعمةٍ
وطوراً تراني والعتاق ركابيا
ويوماً تراني في رحاً مستديرة
تُخرّقُ أطرافُ الرّماح ثيابيا
ولا تنسَيا عَهديْ خليليَّ بعدما
تَقَطّعُ أوصالي وتبلى عِظاميا
يقولون: لا تبعد وهم يدفنونني
وأينَ مكانُ البعد إلا مَكانيَا
غداة غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ
إذا أدلَجوا عيني وأصبحتُ ثاويا
وأصبحَ مالي من طريفٍ وتالدٍ
لغيري وكان المال بالأمسِ ماليا
فياليتَ شعري هلْ بكت أمُّ مالكٍ
كما كنتُ لو عالوا نعيّبكِ باكيا
إذا مُتتُّ فاعتادي القبور وسلمّي
على الرمس أسقيتِ السحابَ الغواديا[right][b]